“الرجاء التنازل بحضور الجلسة الأولى، التي ستنعقد يوم الثلاثاء 16 الجاري، في الساعة السابعة مساء بمكتب سعادة أحمد بك لطفي، المحامي بميدان الأوبرا بالقاهرة، للنظر والمناقشة في تأسيس اتحاد رياضي فرعي للاعبي كرة القدم، وأملنا وطيد في تلبية دعوتنا”.
حسين حجازي وإبراهيم علام في دعوة الاجتماع الأول لتأسيس الاتحاد المصري لكرة القدم – 14 سبتمبر 1919
“الفكرة إن كنا قاعدين طبعا اتسألنا حاجة واحدة بس.. جبت بتاع الماليات من فوق انت عندك دولارات وعندك فلوس قد إيه؟ قالي لا أنا معنديش دولارات.. طب هنجيب الأجنبي هنقعده بإيه؟ فقلنا خلاص ناخد قرار يا جدعان مدير فني مصري ونشوف لغاية يوم التلات”.
جمال علام رئيس الاتحاد المصري لكرة القدم مفسرا آليات اختيار مدرب المنتخب – 12 يونيو 2022
..
هكذا بدأ الأمر، وهكذا يسير الآن بعد قرن كامل من الزمان، 103 أعوام على وجه التحديد، و101 بين يومنا الحالي وتأسيس الاتحاد فعليا عام 1921.
على مر هذه السنوات، تعرض اتحاد الكرة للعديد من الأحداث منذ بداية رحلة تأسيسه وحتى الآن، ولكن بالتأكيد لم يدر في خلد الرجال الذين خاضوا هذا المعترك في دولة محتلة آنذاك، أن هذا ما ستؤول إليه الأمور في يوم ما.
عام 1900 جمعت شركة شوكولاتة ألمانية بطاقات بريدية لإجابات الناس على سؤال “كيف ستصبح الحياة عام 2000”. تضمنت بعض الإجابات أشياء حدثت بالفعل، مثل إمكانية بث العروض المسرحية في المنازل عوضا عن الاضطرار للذهاب إلى المسرح، أو اختراع الغواصات، وبعضها أشياء لم تحدث مثل بناء المنازل على قضبان لتسهيل عملية نقلها، وقدرة البشر على السير فوق سطح الماء.
الأكيد أن فكرة البشر عما سيحدث بعد 100 عام دائما تسير نحو الأفضل، وأن القرن القادم سيحمل الخير لا محالة، ولكن في حالتنا هذه، فإن قرن كامل من الزمان يمكنه أن يأتي سلبا في نهايته، فقط بأدوات أكثر حداثة.
ولكن قبل أن نتحدث عما انتهى الأمر إليه، وهو شيء نراه جميعا على كل حال، دعونا ننتقل إلى ما أتينا للحديث عنه.. كيف بدأ اتحاد الكرة؟
..
اللعبة التي كانت إنجلترا مهدها الأول بشكلها الحالي وبإطار قانوني صريح لها، وصلت إلى مصر في أواخر القرن التاسع عشر برفقة جنود الاستعمار، وخاضت أول حروبها الفعلية للانتشار، ضد الصحافة التي كانت تعارض سياسات الإنجليز في إهمال التعليم وتعتبر “لعبة الإنجليز” وسيلة للإلهاء من جانب، وضد بعض الأهالي الساخطين على انشغال أطفالهم باللعب من جانب آخر، ولكن سرعان ما انتصرت اللعبة الشعبية الأولى في العالم، وتغلغلت في المجتمع المصري كما فعلت بالغالبية العظمى من مجتمعات العالم.
في البدء كان الشارع، ثم المدارس، ثم تشكلت الأندية وزادت الملاعب، ثم تأسس المنتخب المصري، وأخيرا بات لدينا اتحاد لكرة القدم.
اللعبة التي أتى بها الاحتلال وولدت في رعايته، باتت لاحقا وسيلة لمقاومة الاحتلال، وبات انتصار فريق مصري على آخر إنجليزي حدثا يدعو للاحتفال، وبالتالي كان الاتحاد المصري واحدا من أول المؤسسات التي خاضت معركة التحرر منه، لتصبح اللعبة مصرية خالصة دون وصاية أجنبية، وينال لاحقا الاعتراف الدولي من “فيفا” عام 1923.
هذا ما رواه الكاتب الصحفي الكبير ياسر أيوب في كتابه “مصر وكرة القدم: التاريخ الحقيقي.. أين وكيف بدأت الحكاية”، الذي سنستعين به لنخبركم كيف خاضت كرة القدم المصرية رحلتها وصولا إلى تأسيس الاتحاد المصري لكرة القدم.
أبو الكرة.. وأبو الأولمبية
كل هذه الظروف قادت لنشأة جيل من طليعة اللاعبين، من بينهم كان حسين حجازي.. أبو الكرة المصرية. ولد عام 1890 بموهبة فذة في لعبة تتحسس خطواتها الأولى، وخاض رحلة التدرج ذاتها، من الشارع إلى المدرسة إلى الأندية وصولا إلى الاحتراف في إنجلترا، ناهيك عن الأهلي والزمالك بطبيعة الحال.
شخصيتنا الرئيسية التالية ستكون أنجيو بولاناكي لا مفر.. يوناني ولد وعاش في الإسكندرية، ووقع عليه الاختيار ليمثل مصر في اللجنة الأولمبية الدولية، وبالتالي تعين عليه أن يؤسس اللجنة الأولمبية المصرية عام 2010، واكتفى بمنصب السكرتير العام تاركا الرئاسة للأمير عمر طوسون، ولكن هذا لم يكن ترفعا، إذ أراد الرجل في حقيقة الأمر أن يدير الرياضة المصرية بأكملها..
لم يكن بولاناكي إنجليزيا ولا حتى مواليا لهم، ولذلك حاول اكتساب أكبر قدر ممكن من المصريين والأجانب من غير الإنجليز إلى معسكره، في معركة الاستئثار بقيادة الرياضة المصرية، ولذلك في عام 1910، وفي زمن لم تكن مصر عرفت فيه الاتحادات الرياضية، قرر بولاناكي تحويل نادي الرياضة العامة الذي أسسه قبلها بأربع سنوات، إلى اتحاد يجمع مختلف الألعاب الرياضية تحت مسمى “الاتحاد المختلط”.
كانت هذه خطواته الاستباقية لمواجهة عدم الرضا -المتوقع- من الإنجليز، والذين بدورهم ألحقوا بوزارة المعارف منصب يدعى بـ “مراقب التربية البدنية”، وكان فرانك سيمبسون ناظر مدرسة المعلمين العليا أهم وأشهر من شغلوا تلك الوظيفة المستحدثة.
تدين الرياضة المصرية بالكثير من الفضل لبولاناكي بمختلف أنواعها، ولكن فيه أيضا كانت تكمن المشكلة، فاليوناني لم يكن مهتما على الإطلاق بكرة القدم..
سواء في اللجنة الأولمبية أو الاتحاد المختلط، اعتبر بولاناكي كرة القدم مجرد نشاط ثانوي، ولم يفكر حتى في إرسال منتخب مصري لأولمبياد استوكهولم 1912، ولكن مع الوقت، وتماما مثل الصحافة والأهالي من قبل، اضطر للالتفات إليها رغما عنه.
كل ما قرأته أو ستقرأه عن بولاناكي لن يقودك إلا لحقيقة واحدة مؤكدة: كان الرجل حاد الذكاء وذا نظرة مستقبلية، فسرعان ما أدرك أن كرة القدم آتية لا محالة، شاء من شاء وأبى من أبى، ولذلك لم تأخذه العزة بالإثم، ليحتضنها سريعا في 1913، ويؤسس “بطولة الاتحاد المختلط”، أول بطولة كرة قدم رسمية في مصر.
فاز بها فريق السكة الحديد بتشكيل مكون من 8 إنجليز و3 مصريين، وهو ما يقودنا إلى إبراهيم علام.. الرجل الذي تمكن من تمصير هذا النادي لاحقا وهذا لم يكن أكبر إنجازاته. قصص مثل تشكيل أول منتخب مصري، واستحداث الصحافة الرياضية المتخصصة، وقصتنا الرئيسية (تأسيس الاتحاد المصري)، ستجد له فيها دورا رياديا أينما تذهب.
وجد علام لنفسه مكانا دائما في جلسات تضم العديد من الضباط الإنجليز، واستغله لتكرار على مسامعهم حقيقة أن اللاعب المصري لا يقل عن نظيره الإنجليزي، في ظل ظروف استأثر خلالها الإنجليز بنادي السكة الحديد وملاعبه، سامحين للمصريين باستغلاله فقط حين لا يكونوا بحاجة إليه. وحين ضاق الإنجليز ذرعا باستفزازاته المستمرة، اتفقوا معه على إقامة مباراة بين منتخب الوحدات العسكرية الإنجليزية في مصر، ومنتخب مصري من اختياره.
لجأ علام لصديقه المقرب محمد خيري، أحد قدامى نجوم مدرسة السعيدية، واتفقا على أن البداية يجب أن تكون حسين حجازي، الذي كان يملك فريقه الخاص بالفعل في ذلك الوقت، فاشترط حجازي أن تقتصر المشاركة في المباراة على أفراد فريقه فقط، وأن يتنحى علام عن أي دور في الترتيبات الخاصة لهذه المباراة.
وبينما تسلل اليأس إلى علام ورأى حلمه ينهار أمام عينيه، أقنعه خيري أن مصر تملك ما يكفي من المواهب للفوز على الإنجليز بدون حجازي وفريقه، وبالفعل بدأت رحلة تشكيل المنتخب من جديد، ومن طالب هندسة إلى مدافع معتزل منذ 5 سنوات، تألف الفريق المصري وبدأ تدريباته، استعدادا لموقعة الثامن عشر من نوفمبر عام 1914، والتي انتهت بفوز “مصر” على “بريطانيا” 3-1.
حين رأى حجازي ما حدث ثارت ثائرته وأصر أن يلعب فريقه مباراة أمام هذا المنتخب البريطاني باسم منتخب مصر، ليحقق لنا الفوز الثاني على الإنجليز. لم يكن تقلب المزاج هذا غريبا على حجازي، إذ يروي عنه محمد لطيف أسطورة الزمالك والتعليق المصري، أنه حين تم نقل مقر الزمالك -المختلط آنذاك- عام 1924، لم يجد “البيه” -كما كان يُدعى- في الإمكانيات الكافية لممارسة “البريدج والبليارد” في المقر الجديد فقرر العودة إلى الأهلي.
الثنائية التاريخية
ورغم أن صدام “حجازي – علام” الأول يليق بنهاية علاقة قبل ولادتها، إلا أنها لم تكن سوى مجرد الحلقة الأولى من مسلسلهما، إذ كانت خطوة علام التالية مباشرة هي محاولة تأسيس بطولة مصرية، بمشاركة الإنجليز بالطبع، ولكن الغرض الرئيسي منها كان الاستقلال عن بولاناكي واتحاده المختلط، وهكذا ولد “كأس السلطان حسين”.
ثنائية حجازي وعلام كان لهما الفضل في أول مباراة قمة في التاريخ بين الأهلي والزمالك، التي كانت في ذلك الوقت حلما وطنيا: مشاهدة مباراة بين فريقين بلاعبين مصريين فقط لأول مرة. الأمر لم يكن سهلا على الإطلاق، إذ تطلب العديد من النقاشات وصولا إلى وثيقة تضم 28 بندا تناولت كل شيء بمعنى الكلمة، من ملعب المباراة وتوزيع التذاكر إلى السرادق والشاي.
هكذا ولدت القمة المنتظرة بين الفريقين المصريين اللذين كانا يقارعان الإنجليز ويسعدان الشعب المصري بانتصاراتهما على أندية المحتل.. فاز الأهلي في معقل الزمالك 1-0، ثم أعيدت المباراة لاحقا في ملعب الأهلي ففاز الزمالك بنفس النتيجة، والشكر يرجع لهذه الاتفاقية التي وقعها ممثل الأهلي حسين حجازي وممثل “المختلط” إبراهيم علام.
شيئا فشيئا زادت النزعة الوطنية لدى الأندية فظهر الاتحاد السكندري من اندماج ناديي “الاتحاد” و”السكندري”، وظهر ناديان في بورسعيد هما “الموظفين” و”الأهلي”، اللذان سيندمجان لاحقا ليتأسس النادي المصري عام 1920.
وفي هذه الأجواء وبالتزامن مع ثورة 1919، لم تكن أغلب الأندية تتبع الاتحاد الرياضي المختلط، وكانت هذه اللحظة الأنسب للاستقلال بالكرة المصرية والخروج بها من عباءة الإنجليز و”اليوناني” في الوقت ذاته، ليصيغ علام وحجازي معا الدعوة التي بدأنا بها.
وبالفعل، انعقد اجتماع السادس عشر من سبتمبر 1919، وبعدها بيومين عاد الثنائي وصاغ دعوة جديدة للقائمين على شؤون الأندية المصرية جاء فيها:
“نتشرف بالعرض على حضراتكم فكرة إنشاء اتحاد رياضي للأندية الرياضية المصرية.. فإن وافق ناديكم المحترم على هذه الفكرة المفيدة، نرجو التفضل بإرسال مندوبين اثنين مفوضين، يمثلان ناديكم المحترم في المناقشات، التي ستدور حول قانون هذا الاتحاد. مع العلم بأن هذا الاجتماع، سيكون يوم الأحد 21 الجاري بنادي مدرسة التجارة العليا، فوق بار اللواء أمام جريدة الأهرام.. ونرجو تزويد المندوبين بخطاب، ينبئ بالموافقة على الفكرة وبذكر اسميهما.. وتفضلوا بقبول جليل احتراماتنا”.
وبدأت المعركة
لم يكن بولاناكي راضيا عن كل هذه الدعوات الأخيرة لانتزاع كرة القدم من هيمنة الاتحاد المختلط، وبالتالي حين تلقى الدعوة للمشاركة في أولمبياد أنتويرب 1920 في بلجيكا، رآها فرصة سانحة لاستعادة السيطرة من جديد.
على الناحية الأخرى أرسل حسين حجازي خطابا إلى بولاناكي، يطلب منه القيام بتشكيل منتخب مصري يشارك في الدورة الأولمبية، ليرد الأخير بأن حجازي “يفترض به أن يعرف أن فريق كرة القدم يتكون من 11 لاعبا”.. كان ذلك أيضا من أفضال بولاناكي على الرياضة المصرية، فلولاه لظلت فرق حجازي تعاني من النقص العددي لبقية مسيرته.
المهم، أخبر بولاناكي النجم المصري الذي لم يكن يجيد العد بأن عليه تأجيل مسألة اختيار اللاعبين لحين عودته إلى مصر في أكتوبر 1919، إذ كانت فرصته الأفضل لفرض سيطرته على اللعبة وأخذ الأندية تحت جناحه، ووأد ثورة “الاتحاد المتخصص” في مهدها، ولكنه اصطدم بمنافس غير متوقع: فرانك سيمبسون.. مراقب التربية البدنية لوزارة المعارف.
أرسل بولاناكي إلى الحكومة طلب إرسال بعثة مصرية للمشاركة في الأولمبياد وصرف مبالغ مالية لها، فأحالت الحكومة المسألة إلى سيمبسون، الذي وافق على كل طلبات اليوناني، وسمح له باختيار كل اللاعبين المشاركين في مختلف الألعاب.. إلا كرة القدم.
نعم، كان بولاناكي ذكيا، ولكن سيمبسون كان أذكى منه في هذا الموقف، فبينما كان اليوناني يسعى للاستئثار باختيار المنتخب، كون الإنجليزي لجنة من المصريين أسماها “لجنة كرة القدم الأولمبية المصرية” وتركهم يختارون منتخبهم بأنفسهم، وبينما لم يكن بولاناكي يهتم بكرة القدم مقارنة باهتمامه ببقية الألعاب، لم يكن الإنجليز يمانعون سيطرته على بقية الألعاب، مقابل ألا تخرج كرة القدم من عباءتهم.
على الرغم من ذلك، كان بولاناكي وسيمبسون أو الإنجليز عموما يتشاركان العدو ذاته، وهو دعوات تأسيس الاتحاد المصري لكرة القدم. فبينما كان اليوناني ينظر إليها كتهديد يقارع نفوذه، نظر إليها الإنجليز كامتداد لثورة 1919، ومن هنا جاءت فكرة منح المصريين حق اختيار أفراد المنتخب، ولكن تحت الإشراف البريطاني الذي لم يتدخل فعليا في نهاية المطاف، ولكن اكتفى فقط بوضع مظلته فوق ما حدث، وهو ما يقودنا إلى آخر شخصياتنا الرئيسية: جعفر والي.. رئيس لجنة كرة القدم الأولمبية، ورئيس الاتحاد المصري لكرة القدم لاحقا.
ساعة الصفر
ذهبت البعثة الكروية الأولمبية إلى بلجيكا فخورة بعملية اختيارها المصرية الخالصة، وعادت أكثر عزما على المضي قدما في طريق تأسيس الاتحاد المصري لكرة القدم.
بالتوازي مع ذلك، بدأت الوزارات والمصالح الحكومية في تشكيل أندية لموظفيها، وتأسس نادي الترسانة على يد “ميجور سلاوتر” الإنجليزي الذي استقطب لناديه -ولكرة القدم بطبيعة الحال- المزيد من الشعبية في مصر باعتباره فريق العمال والبسطاء، لينال لاحقا منصب العضو الشرفي في الاتحاد الوليد.
وأخيرا بدأت سلسلة الاجتماعات بين الأندية للوصول إلى هذا الغرض، بقيادة جعفر والي ممثل الأهلي ورئيسه لاحقا، وبمعاونة مستمرة من صاحبي الشرارة الأولى بالطبع.. حسين حجازي وإبراهيم علام.
كانت هذه الأندية تعلم جيدا أنها بصدد إعلان الحرب على الاتحاد الرياضي المختلط وعلى بعض القيادات الإنجليزية التي لم تكن تريد تأسيس اتحاد كرة مصري، وبالتالي ارتأت مواصلة اجتماعاتها انتظارا للحظة المناسبة، والعمل على زيادة شعبية اللعبة بكل الطرق الممكنة إلى أن تأتي تلك اللحظة، وبالفعل، أهدى الزمالك للكرة المصرية مرادها، محطما هيمنة الفرق العسكرية الإنجليزية على كأس السلطان في السابع من مايو عام 1921.
وأخيرا، وفي الثالث عشر من أكتوبر 1921، استجاب 23 ناديا لدعوة النادي الأهلي للاجتماع في مقره، وهم: الزمالك – السكة الحديد – الترسانة – القاهرة – الاتحاد السكندري – النادي الحديث – التوفيقية – العباسية – الزيتون – الأهرام – المحروسة – المستقبل – أرارات – الزقازيق – بنها – محرم بك – منتخب المدارس – مصر بالمنيرة – صلاح الدين بالخليفة – المصري بدرب الجماميز – النيل ببولاق – شركة الملابس المصرية بشبرا – القسم الطبي بالجيش المصري.
يوم تاريخي لكرة القدم المصرية، اتفقت فيه الأندية على كسر الانتظار، فقد حان الوقت لأخذ الخطوات العملية، وفي الثالث والعشرين من ديسمبر، اجتمعت الأندية ذاتها لانتخاب أول مجلس إدارة للاتحاد، ليفوز جعفر والي بمقعد الرئيس متحصل على ثلاثة وعشرين صوتا مقابل صوت وحيد للأمير عباس حليم، بينما فاز فؤاد أباظة بمنصب الوكيل، وإسماعيل يسري بمنصب أمين الصندوق، ويوسف محمد بمنصب سكرتير عام الاتحاد، وتواجد إبراهيم علام ضمن 12 عضوا آخرين تم انتخابهم وجميعهم من المصريين، ودخل حسين حجازي ضمن اسمين نالا العضوية بالتعيين، رفقة فرانك سيمبسون.. مراقب التربية البدنية بوزارة المعارف الذي أحبط خطة بولاناكي في العام السابق.
“ثم عاشوا سعداء للأبد”. انتهت المشاكل؟ لا، بل ربما بدأت لتوها..
يوم ندم بولاناكي
أولا كان على أعضاء الاتحاد الوليد البحث عن مقر له، فاقترح جعفر والي تخصيص غرفة بالنادي الأهلي، وهو ما قوبل بالرفض لأنه سيمنحه ميزة لا يملكها البقية، فلجأوا لشقة النادي الزراعي في عمارة راتب بميدان الأوبرا مقابل جنيهين شهريا.
ولكن هذا لم يستمر طويلا، وعاد الاتحاد لعقد اجتماعاته في الأهلي مع استمرار التحفظ ذاته، الذي حرك الجميع للبحث عن مقر آخر، فكان شقة في شارع المدابغ (شريف حاليا)، ومنها انتقل لاحقا إلى شقة أخرى في شارع الشواربي، وظل هناك حتى نُقل إلى مقر الجبلاية الشهير عام 1953.
المشكلة الأخرى كانت وضع قوانين تنظم اللعبة، وفي الحقيقة كانت هذه هي الأسهل، إذ اقتبسوا القوانين الإنجليزية، لينتقلوا إلى الأزمة الثالثة وهي ضعف الموارد، والتي تم التغلب عليها بالاتفاق الجماعي على تحمل المصاعب معا وقصر نشاط الاتحاد على الجانب المحلي فقط دون سفر أو استقدام فرق أجنبية، لحين البدء في البطولات الجديدة وفتح المزيد من أبواب الإيرادات.
بين الدوري والكأس على النظام الإنجليزي، تم الاتفاق على البدء بالكأس فقط، إذ لم يكن في مقدور المؤسسة الناشئة تنظيم بطولتين في آن واحد. انطلق الكأس الجديد تحت رعاية الملك فؤاد وباسم نجله الأمير فاروق ابن العامين فقط آنذاك، ولكن الأهم من انطلاق البطولة، كان استقبال الملك فؤاد شخصيا لمجلس إدارة الاتحاد في القصر الملكي. السلطان حسين كان يملك بطولة باسمه، لكنه ما كان ليتكبد عناء لقاء أحد لأجلها، وبالتالي كان هذا الاعتراف الملكي الأول بمنظومة الكرة المصرية الجديدة.
صراع فرض السيطرة امتد ليشمل كأس السلطان الذي ظل مستمرا، وبالفعل انتهى هذا الصراع بانتصار الاتحاد المصري لكرة القدم وضم البطولة تحت مظلته، ليصبح الحاكم الأول للعبة في مصر، ثم يبدأ إطلاق الدوري بنظام المناطق، وبنهاية موسم 1922، بلغت إيرادات اتحاد الكرة 211 جنيها و435 مليما، بينما بلغت مصروفاته 66 جنيها و915 مليما، بصافي ربح 144 جنيها و520 مليما.
“أنا مش عايز أقولك حاجات يا أحمد بيه أنا داخل اتحاد الكرة عليا مديونية 600 مليون جنيه… أنا دخلت اتحاد الكرة كان فيه 200 ألف دولار واخدها المنتخب ورايح بيها الكاميرون.. أنا مش عايز أتكلم يا أحمد بيه”.
بعد اجتياز كل هذه العقبات، لم يبقَ سوى عدو أخير.. أنجيو بولاناكي الذي أصر على محاربة طواحين الهواء، وتجاهل نجاحات الاتحاد الباهرة في وقت قصير ليراهن على فشله، وهنا أخذته العزة بالإثم وقرر تأسيس “كأس بولاناكي”، الذي لم يشارك به سوى 5 أندية في نهاية المطاف، 4 منهم من الإسكندرية مقر اتحاده الرياضي المختلط.
ورغم أن اتحاد الكرة الجديد قد واجه في عامه الثاني (2023) التحدي الأعنف منذ نشأته، حين نشر المحامي ميشي أسود مقاله في جريدة المقطم، متسائلا عن المبالغ الطائلة وسبل إنفاقها، انبرت جريدة الأهرام للرد مؤكدة أن كل شيء يتم في العلن ويخضع لمراقبة دقيقة، ولكن سرعان ما تحطمت هذه المعركة برمتها على صخرة الإنجاز الأعظم..
24 مايو 1923.. الاعتراف الرسمي من الاتحاد الدولي لكرة القدم “فيفا” بالاتحاد المصري.
جهود جعفر والي الذي استخدم كل علاقاته الدولية منذ يناير، كللتها مساندة رئيس اللجنة الأولمبية الأمير عمر طوسون، الذي سدد الضربة القاضية لبولاناكي سكرتير اللجنة ذاتها، ليصبح اتحاد الكرة هو الهيئة الوحيدة المعترف بها والمصرح لها بالتعامل كرويا مع أي جهة خارج مصر بهذا الصدد، ووربما كانت هذه هي اللحظة التي ندم فيها بولاناكي على ترك رئاسة اللجنة الأولمبية للأمير طوسون قبل 13 عاما.
منذ متى.. وإلى متى
“أنا الذي لابد أن يختار لاعبي المنتخب وليس اتحاد الكرة، ولابد أن يتعلم المصريون لعب الكرة بنظام، ولابد من المحافظة على مواعيد التدريب ونظام تغذية خاص، وأتمنى أن ينجح الاتحاد في تنظيم مباريات للمنتخب في أوروبا”.
هذا ليس كارلوس كيروش، بل الاسكتلندي جيمس ماكراي أول مدرب “حقيقي” في تاريخ الكرة المصرية قبل 94 عاما من يومنا هذا، ولا يزال ذلك التصريح الذي لم يأخذ حقه أبدا من لاعب مصري شهير بأنه تناول “كيلو ملبن بالقشطة” قبل مباراة رسمية فكان يرى الكرة اثنتين في قدم مهاجم الخصم، حاضرا وبقوة بعد قرابة قرن من الزمان، ليخبرنا بما فاتنا وما أهدرنا من الوقت.
على كل حال، قصة الاتحاد المصري الناشئ لم تستمر أبدا بهذه الوردية رغم كل المصاعب التي تم اجتيازها، نترك الوصف مباشرة للكاتب ياسر أيوب:
“أصبحت هذه الانتخابات في يونيو 1928 أول انتخابات حقيقية في تاريخ الاتحاد المصري لكرة القدم، ويمكن اعتبارها آخر انتخابات أيضا، بمعنى أن أية انتخابات لهذا الاتحاد شاهدناها مؤخرا أو سنلحق بها ونتابعها مستقبلا، هي مجرد نسخة مكررة من انتخابات عام 1928. مجرد تغيير في الأسماء والوجوه ولكن بالرؤى والأفكار والحسابات والقواعد نفسها. الشكاوى والصرخات الرافضة نفسها لنظام الانتخابات وأساليبها. الاحتجاج والسخرية والغضب نفسه لأصوات الأندية التي يتم شراؤها بالمال أو الوعود والخدمات. الضغوط نفسها التي تمارسها الحكومة ورجال الأمن على الأندية لمصلحة مرشحين بعينهم. الأندية نفسها التي ليست لها أي قيمة كروية أو أي نشاط ظاهر وواضح، ولكنها تظهر فجأة وقت الانتخابات للاستعراض والمساومة والبحث عن أية مكاسب ومصالح.. ومن يومها والصحافة تهاجم وتنتقد ذلك لكن لا شيء يتغير.. تشهد مصر حربا عالمية، وتقوم في مصر ثورة يوليو ثم بعدها ثورة يناير، وتخوض ثلاثة حروب ضد إسرائيل، وتتحول من الاشتراكية إلى الانفتاح ثم الفوضى.. ويبقى اتحاد الكرة على حاله بعناوينه وسياساته وانتخاباته نفسها”.
جعفر والي هو رئيس اتحاد الكرة وفي الوقت ذاته رئيس الأهلي، مهما كنت واثقا في ذمة الرجل فإن هناك تضارب مصالح واضح، ومن هذا المنطلق فكر محمد حيدر رئيس الزمالك أن عملية بنائه للنادي لن تتم بالشكل الصحيح إلا إذا باتت له يد تقارع الأهلي داخل الاتحاد، وبالتالي ترشح لمنصب الوكيل وفاز به، قبل وقت قصير من “أزمة جنيف”.
أثناء عودة البعثة الأولمبية من أولمبياد أمستردام 1928 توقفت في جنيف السويسرية، فارتكب اثنان من لاعبي المنتخب -ورجاء حاول التظاهر بأنك لم تسمع بشيء مشابه لاحقا- فضيحة أخلاقية. فعل مشين لدرجة أن الصحافة تكتمت تماما على “نوعية” هذا الفعل، مكتفية بترديد أنه كان فاضحا ومشينا وأسفر عن طرد الفريق المصري كاملا من الفندق.
الثنائي كان محمد جمال الدين “البرنس” ومحمد حسن، والقرار المتوقع كان شطبهما بطبيعة الحال، ولكن “البرنس” كان لاعبا هاما في الزمالك، وبالتالي تصدى حيدر بكل ما أوتي من قوة لقرار الشطب، فانقسم الاتحاد إلى فريقين، الأول يؤيد شطبه بقيادة والي، والثاني يرفض شطبه بقيادة حيدر.
أمام هذه الأزمة المحتدمة التي تجاوزت مقر الاتحاد وباتت حديث الشارع المصري، أرسل والي خطابا وأوصى بعدم فتحه إلا أمام الجمعية العمومية لاتحاد الكرة، ليتضح هناك أنه خطاب استقالته. قبل الاتحاد هذه الاستقالة، ثم قبل حيدر بشطب “البرنس” وزميله محمد حسن بعد معلومات بلغت مسامعه عن سلوكهما، ثم وردت معلومات أخرى من المفوضية المصرية في جنيف تبرئ اللاعبين، ثم عاد جعفر والي إلى منصبه، ثم غادر للأبد عام 1931، وبعد 6 أعوام صعد حيدر للمنصب في ولايتين تخللهما فاصل قصير، ولم يتركه إلا بثورة يوليو.. وهكذا سارت الكرة المصرية في طريقها إلى أن وصلتنا اليوم على وضعها الحالي.
أخيرا، وبعد 99 عاما بالتمام والكمال من اعتراف الاتحاد الدولي لكرة القدم “فيفا” بالاتحاد المصري، تقلد رئاسته رجل لم يجد أدنى حرج في إخبار العامة بأن اختيار مدرب المنتخب الأول لكرة القدم قد تم بناء على معايير لم يكن من ضمنها كرة القدم، مستشهدا بوجود تسجيل لـ “هذا الكلام” على حاسوب المدير التنفيذي للاتحاد.
لقد كانت رحلة عظيمة وشاقة، والحكم على النوايا ليس بالأمر الهين، ولكن فيما يبدو لم تكن نوايا الرجال الذين خاضوا معترك تأسيس هذا الكيان، تتضمن ترك أحفادهم لهذه الدائرة المغلقة إلى يومنا هذا.
المصادر:
1- مصر وكرة القدم: التاريخ الحقيقي.. أين وكيف بدأت الحكاية؟ – ياسر أيوب
2- الكورة حياتي – محمد لطيف