تاريخ الصحافة العربية لم يُكتب بعدُ، لأنّه لم يتشكّل إلى اليوم موضوعاً للبحث العلمي، محدّدَ المجالات واضحَ القسمات. ورغم غزارة ما كُتب عن ظروف نشأتها وسائر أطوارها، منذ حملة بونابرت في مصر 1799 إلى يوم الناس هذا، فإنّ هذا التأريخ لا يخرج عن إطار الاستعراض السردي وتِكرار المعلوم من تلك الحِقبة بالضرورة، لا يعكس تعقُّد هذا النشاط الفكري – اللغوي ولا تنوّعَه الهائل، ولا سيما أيام نشأته الأولى. الاستثناء الوحيد الذي يَصلح أن يكون قاعدةً يُبنى عليها هو كتاب “تاريخ الصحافة العربية” لـ فيليب دي طرازي (1865 – 1956)، والذي حُرّر بين 1913 و1933.
كاتبه من أرستقراطية لبنان، فيكونت (نائب الكونت وهي لقبٌ إقطاعي). وُلد في أسرة مسيحيّة سريانيّة شديدة التديُّن. ودرس بالمدرسة البطريركيّة مدّة سنتيْن، ثم التحق بـ”كلية الآباء اليسوعيّين”، وتعلَّمَ إلى جانب الضاد اللاتينيّة واليونانيّة والإيطاليّة. وعمل بعد تخرُّجه بأعمال التجارة مع أسرته، غير أنه عَزَف عن فتنة الأموال وانصرَف إلى نفحات الأدب ودَرْس التاريخ. وبفضل مسيرته الغنيّة، فاز بعضويّة “المَجْمَع العلمي العربي” بدمشق، واللجنة العليا لدار كتب المسجد الأقصى بالقدس، علاوةً على عضويّاتِ عدد من الجمعيّات العلميّة في باريس وبرلين وموسكو.
من أهم مؤلَّفاته: “تاريخ الدولة المصريَّة في عهد السلالة المحمديَّة العلويَّة”، و”خزائن الكتب العربيَّة في الخافقين”، و”اللغة العربيَّة في أوروبا”، و”عصر العرب الذهبي”. وكان للرجل شِعرٌ جمَعَه في ديوانَيْه: “نفحة الطيب” و”قُرَّة العين”.
وأمّا كتاب “تاريخ الصحافة العربية”، فقد جَمع فيه آلاف المعلومات الدقيقة التي كاد أن يطويها التاريخ حول أغلب النشريات والصحف والجرائد والمجلّات التي ظهرت في المشرق والمغرب وأوروبا طيلة القرن التاسع عشر والعقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين؛ حيث عدّ قرابة ألف وتسعمئة جريدة ومجلّة. فقد كان لديْه ولعٌ باقتناءِ الصُّحف، فاجتمع له الآلافُ منها بلُغاتٍ مختلفة ومن عصورٍ مختلفة، وهي ما شكّلت المصادر الأساسية التي استند إليها في وضْعِ مَوسوعته هذه.
والأقرب أن يُوصَف العمل بالموسوعة التاريخية لأنَّ مؤلفه، فيليب دي طرازي، احتذى فيه المنهج الكرونولوجي، مقسّماً إياه إلى أربع حِقب متتالية، بحيث تتناول في كل حقبة مرحلة من مراحل تاريخ الصحافة. وصدّر جميعها “بتوطئة” تتألّف من ثمانية فصول حول معنى الصحافة ونُبذ عن سِير روّاد “مهنة المتاعب”.
ولمزيد الدقة، غذّى مقاربته التأريخيّة هذه برؤية جغرافية شاملة، فاقتفى أثر المنشورات بين ولايات السلطنة ودول أوروبا وحتى الأميركيتيْن، كي لا يفوت شيءٌ. وعلى ذلك النهج سار طيلة الأجزاء الأربعة، فجعلها بمثابة دائرة معارف تُنقّب عن أحوال الصحافة العربية ومحرّريها منذ تكوُّنها إلى أيامه. وتتضمّن كل صفحة منها معلومات حول الصحافيين، وكان عامّتهم من رجالات الأدب وفكر النهضة، وعن تكوينهم وأخلاقهم ومناقبهم وما تركوه من الآثار.
وقد اعتمد الفيكونت منهج “النبذة” في تحرير هذه المعلومات، متأثّراً بكتب المناقب والسير والتأريخ العام، إذ كان يقدّم موجزاً عن سيرة الصحافيين الكبار مع تفصيل ظروف حياتهم وجملٍ عن مناقبهم وحتى أوصافهم الخِلقية والخُلقيّة، مما يجعل الكتاب حافلاً بالأخبار الطريفة والأسرار اللاذعة التي تهمّ روّاد النهضة. ويكفي مثلاً لذلك حديثُه عن وَلع جمال الدين الأفغاني بالسيجار وشرائه له بنفسه حتى أواخرَ أيامه. ومن الطريف أيضاً أنّ دي طرازي ختم كل جزء بمجموعة من الجداول الدقيقة حول أسماء الصحف وتواريخ صدورها ومكانه والمشرفين عليها في الولايات العثمانية وفي أوروبا.
تاريخ الصحافة العربية الذي لم يكتبْ بعدُ هو إذن تاريخ أجناسي أو لن يكونَ. من مواضيعه الرئيسة رصد التشابك الحاصل بين النصوص الكلاسيكية، كالمَقامة وأدب الرحلة والخبر التاريخي، وبين أساليب الكِتابة الحديثة، والمقال عِمادها. ومن مواضيعه أيضاً الصلات الوثقى التي جمعت بين الكتابة الأدبية والصياغة الصحافية. فمن رَحِم الأولى انبَثقت الثانية، وحملت عنها خصائصها الأسلوبية والبنيوية. ثم إنّ هذا التاريخ، وهو نصي بالأساس، ينبغي أن يُدرَس على ضوء المؤثّرات المادية الأخرى مثل نوعية الأوراق، والانتشار البطيء للمطابع وكيفيات توزيع الجرائد والعوامل المؤثّرة في تلقّيها وتقبّلها.
على أنَّ الأثر الأكبر الذي يجب أن يُبحث عنه، والذي أشار إليه الكاتب بانتظام، هو أثر الخطاب الديني: فلئن تخلّصت صحافة أوروبا نسبياً من هيمنة الكاثوليكية في عصور الأنوار الأولى، فإنّ نظيرتها العربية ظلّت تحاور مقولات الإسلام والمسيحية وتناورها، وهذا الجدل الدائم هو ما يشكّل لُحمة تاريخ صحافتنا وسَداه. وإن كان لهذا الكتاب من مزية، فهي الكشف عن الضرورة القصوى للبدء في كتابة تاريخ للصحافة العربية وتعريف للمقولات الأجناسية التي تحكمها.