أيكفي أن يكون عمل إبداعي ما على الجانب الصحيح في موقفه التاريخي/ السياسي/ الإنساني، كي نشيد بأهميته ونخفف الوطء في “قسوة” الحكم على جودته الإبداعية؟ وما الخيط الرفيع الفاصل في الحكم على عمل ما، كعمل ابداعي أو توثيقي فقط؟ هذه بعض الأسئلة التي خرجت بها وكنت أقلّبها في رأسي بعد مشاهدة المعرض الفني للصحافية والمخرجة السينمائية الأميركية لورا بويتراس. المعرض يحمل العنوان “لورا بويتراس: ضجيج فضائي” ويستضيفه “متحف ويتني للفن الأميركي” الواقع في منطقة مانهاتن بمدينة نيويورك، ويستمر حتى الأول من أيار/ مايو المقبل.
اقرأ أيضًا: جاكسون بولوك، بيكاسو أميركا في معرض ضخم
استقبال بوجوه خائفة، بمراقبة مخيفة
يستقبل الداخل إلى المعرض، فيديو تظهر من خلاله وجوه في حالة هلع وخوف مباشرة بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول وخلالها. تلك الوجوه التي شهدت الهجوم على مركز التجارة العالمي من أطفال ونساء ورجال، مغطاة بغبار الخوف وعدم تصديق ما يحدث. لا يتعامل المعرض مع هذه النقطة “لاحقًا”، بقدر ما يأخذها كنقطة انطلاق لسرد حكايات “الحرب على الإرهاب” التي ما زال العالم يعيش تحت وطأتها بأشكال مختلفة، من بينها احتلال العراق عام 2003، وتكثيف عمليات وطلعات تجسس الطائرات من دون طيار وضحايا ضرباتها، إضافة إلى برامج التجسس على المواطنيين الأميركيين وغير الأميركيين داخل الولايات المتحدة وخارجها.
تبني الصحافية والمخرجة السينمائية للأفلام الوثائقية في المعرض على أعمال سينمائية سابقة لها، كما على وثائق رسمية وتسجيلاتها حول تعرضها للمراقبة والتوقيف من دون المحاكمة من قبل السلطات الأميركية. وتبدأ حكاية توقيفها وتفتيشها في كل مرة تخرج وتدخل إلى بلادها من قبل السلطات الأميركية لأكثر من خمسين مرة مع بداية العمل على فيلمها “بلادي بلادي”، الذي قامت بتصويره عام 2004. فيلم يتناول قصة عائلة عراقية تحت الاحتلال الأميركي وحياتها اليومية. يظهر المعرض ثماني دقائق “عادية” قامت بويتراس بتصويرها في الفجر، عندما استيقظت العائلة العراقية على صوت إطلاق النار، فخرجوا إلى السطح ليروا ما يحدث وكانت القوات الأميركية تنفذ إحدى عملياتها. لا يظهر المقطع أي تفاصيل عن مكان العملية أو معلومات قد تبدو مضرة بالأمن القومي الأميركي. لكن مصادفة تواجد بويتراس في المكان، كانت كفيلة كي تضعها المخابرات الأميركية على لائحتها من دون حتى مشاهدة الفيديو الذي التقطته، والتأكد من المعلومات، ومصادفة تواجدها، خاصة أنها كانت من الصحافيين الذين رافقوا الجيش الأميركي في جزء من عملياته التي قام بها في العراق. كانت الشائعات عن وجود علم مسبّق لها بالعملية، كافية لوضعها تحت المراقبة. تمكنت بويتراس لاحقا من الحصول على تلك الملفات بعد رفع دعوى قضائية تحت قانون “الحق في حرية المعلومات الشخصية” والفوز بها. واستخدمت جزءا من تلك الملفات في المعرض، حيث حصلت حتى بداية المعرض على ما يقارب الـ 800 صفحة.
اقرأ أيضًا: وليد رعد، خدش السياسي ومشاكسته بالفن
مواضيع أميركية؛ بن لادن، غوانتانامو، سنودن
تتعامل بويتراس مع مواضيع شائكة أخرى والتي كانت كذلك جزءا من أعمالها السابقة، من بينها فيلمها “القسم”، 2010، الذي يتناول قصة حياة سائقين سابقين لأسامة بن لادن (سالم حمدان وناصر البحري)، وكذلك مقابلات بعد خروجهما من معتقل غوانتانامو. تأتي تلك المقاطع من التحقيقات مع كل منهما في خلفية الفيديو الذي يظهر هجمات سبتمبر/ أيلول لنذهب بعدها في رحلة البحث عن وجوه متعددة لإرهاب الدولة والمراقبة والتحقيقات بما في ذلك الطائرات من دون طيار. وضمن هذه السلسلة من أعمال الفيديو المختلفة يمكن للزائر الجلوس أو الاستلقاء تحت أحدها، وكأنه يطل من نافذة على سماء بغداد أو اليمن حيث النجوم جميلة، ولا شيء يعكر صفو السماء غير صوت تلك الطائرات التي تتجسس عليك، وربما ستضرب في أي لحظة، ليكون المشاهد ربما ضحية للطائرات العمياء. لكن العمل الفني لا يذهب إلى مفاجأة الزائر بطريقة مبدعة بما يمكن أن يحدث، بل يكتفي بأصوات تلك الطائرات، التي لا يمكن فهم واستيعاب وقعها الفعلي لمن لم يسمعها في سماء بلاده أو يتعامل مع نتائج تجسسها عليها. يدرك المتلقي من الشروحات والتخطيط أن السماء مليئة بتلك الطائرات وبرامج التجسس الأميركية البريطانية، التي تتجسس حتى على أصدقائها، أي الطائرات الإسرائيلية، كما تبين الأوراق التي نشرها إدوارد سنودن، ويتناولها المعرض كذلك.
ملحق الثقافة – معرض لورا بويتراس: ضجيج فضائي |
كان إدوارد سنودن موضوع فيلمها الوثائقي “المواطن (رقم) أربعة”، 2014، الذي حازت من خلاله على جائزة الأوسكار للأفلام الوثائقية عام 2015. يتناول حياة إدوارد سنودن وقراره بكشف المعلومات السرية، وهو تقني الحواسيب والموظف المتقاعد لدى وكالة المخابرات الأميركية ووكالة الأمن القومي الذي سرّب تفاصيل من برامج التجسس “بريسم” لصحيفتين: الغارديان البريطانية والواشنطن بوست الأميركية. ما زال سنودن مطلوباً من قبل الأمن القومي الأميركي بتهمة التجسس وإفشاء معلومات سرية، ولذلك يعيش حاليًا في روسيا في مكان غير معروف. وكانت لورا بويتراس واحدة من الصحافيين الذين اختارهم سنودن لائتمانهم على الملفات السرية التي كانت بحوزته، وقد قامت بتوثيق الاتصال وأسبابه وحيثياته في فيلمها.
يعود المعرض ليسلط الضوء على قضية سنودن ومسألة تجسس الدول على المواطنين ومواطنيها بشكل خاص، وقتل الأبرياء والتعذيب وغيرها من الممارسات التي ترتكب باسم “الأمن والدفاع عن الوطن”. وليست مصادفة أن يحمل المعرض اسم “ضجيج فضائي” فهو الاسم الذي اختاره سنودن ليحمل عنوان الملفات التي اؤتمن لاورا بويتراس عليها، وكانت تشي بفضيحة تجسس السلطات الأميركية واسعة النطاق على مواطنيها.
كتاب مع المعرض وجوائز
يصاحب المعرض، كتاب فيه مقالات ومشاركات عديدة مؤثرة من عدة أشخاص بمن فيهم إدوارد سنودن والفنان الصيني أي وايواي، كما جزء من يوميات كتبتها لورا في مراحل مختلفة بما فيها الفترة التي كانت فيها على اتصال مع سنودن وذهابها للقائه في هونغ كونغ، بعد اختياره لها لتكون واحدة من الصحافيين الذين أفشى لهم سره.
حصلت لورا بويتراس، مواليد 1964، على جوائز ومنح عديدة ومرموقة عن أفلامها وأعمالها الصحافية، بما فيها جائزة الـ “بوليتزر” لعام 2014 ، التي تقدمها جامعة كولومبيا في نيويورك للصحافة الأميركية في فئات عديدة. وحصلت عليها بالمشاركة مع كل من الصحافيين، غلين غرينوالد وإيوين ماكاسكيل، اللذين قادا سلسلة من المقالات والتحقيقات الصحفية في هذا الشأن لجريدة “الغارديان” البريطانية، بالتزامن والتعاون مع صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية. كما حصلت على جائزة جورج بولك للصحافة عن التغطية نفسها.
يطرح المعرض أسئلة مهمة ويحيي مرة أخرى النقاش حول مسائل عديدة من بينها التعذيب والتجسس والحروب التي تقودها الحكومات المنتخبة في الخارج، مما يعيد موضوع المسؤولية الأخلاقية للتعامل مع تلك الحقائق على عاتق كل مواطن. لا يعطي المعرض أجوبة جاهزة لكنه يخفق في تجاوز المنطقة الرمادية بين عرض أعمال وثائقية ذات طروحات سياسية وإنسانية مهمة، وبين العمل الفني ذي الوجه التوثيقي الذي لم يفقد سحره الفني بتوثيق البشاعة وطرح قضايا إنسانية ومهمة.